فصل: (فرع: العمرة بعد الحج أو القران من أدنى الحل لنفسه أو عن غيره)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: إحرام المتمتع والتعريف بحاضري المسجد الحرام]

إذا لم يرد المتمتع العود إلى ميقات بلده.. فإنه يحرم بالحج من مكة، وفي موضع استحباب الإحرام منها قولان، حكاهما في "العدة":
أحدهما: أن الأفضل أن يطوف بالبيت سبعا، ثم يصلي ركعتي الطواف، ثم يحرم.
والثاني: أن الأفضل أن يحرم من جوف منزله، ثم يطوف بالبيت بعد ذلك محرما.
فإن أحرم بالحج من مكة، ثم رجع إلى ميقات بلده محرما بالحج قبل التلبس بشيء من أفعال الحج.. فهل يسقط عنه دم التمتع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط؛ لأنه مر بالميقات محرما بالحج قبل الوقوف، فهو كما لو أحرم منه.
والثاني: لا يسقط، وبه قال مالك؛ لأن له ميقاتين يجب عليه الدم بالإحرام من أحدهما فإن أحرم منه.. لم يسقط عنه الدم بالعود إلى الآخر، كما لو عاد بعد الوقوف.
وقال أبو حنيفة: (لا يسقط عنه الدم حتى يعود إلى بلده).
دليلنا: أن بلده موضع لا يجب عليه الإحرام منه بابتداء الشرع، فلا يسقط عنه الدم بالعود إليه، كسائر البلاد.
وإن خرج من مكة إلى الحل، وأحرم بالحج من هنالك.. فقد ترك ميقاته، فإن عاد إلى مكة محرما قبل الوقوف.. كان كما لو أحرم من مكة. وإن مضى إلى عرفات قبل أن يعود إلى مكة.. ففيه وجهان:
أحدهما قال عامة أصحابنا: يجب عليه دمان: دم التمتع، ودم لترك الإحرام من مكة.
والثاني: قال ابن الصباغ: لا يجب عليه إلا دم واحد؛ لأن دم التمتع إنما وجب لترك الإحرام بالحج من ميقات بلده، ولا فرق بين أن يترك من الميقات مسافة قليلة أو كثيرة، فإنه لا يجب عليه إلا دم واحد.
وإن أحرم بالحج من موضع من الحرم خارج مكة، ولم يعد إلى مكة قبل الوقوف.. فهل هو كمن أحرم من مكة؟
قال ابن الصباغ: من أصحابنا من قال: فيه قولان، ومنهم من قال: فيه وجهان:
أحدهما: أنه كمن أحرم من مكة؛ لأن مكة والحرم في الحرمة سواء، كما نقول في ذبح الهدي، وتحريم الصيد والشجر.
والثاني: أنه كمن أحرم من الحل؛ لأن مكة صارت ميقاتا له، فهو كمن لزمه الإحرام من قرية، فخرج عنها وأحرم.
والشرط الرابع: أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196].
إذا ثبت هذا: في (حاضروا المسجد الحرام): من كان بالحرم، أو كان في موضع بينه وبين الحرم مسافة لا تقصر فيها الصلاة.
وقال ابن عباس: (حاضروا المسجد الحرام: من كان بالحرم خاصة لا غير) وبه قال مجاهد، والثوري.
وقال مالك: (حاضرو المسجد الحرام: أهل مكة، ومن كان بذي طوى لا غير).
وقال أبو حنيفة، ومكحول: (حاضرو المسجد الحرام: من كان داره دون الميقات).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196].
فكل موضع ذكر الله تعالى المسجد، فإنما أراد به الحرم كله لا المسجد بنفسه، وذلك كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]، وأراد به بيت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
وقَوْله تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25] وأراد به الحرم.
وقَوْله تَعَالَى في المشركين: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28].
ولا خلاف بين أهل العلم: أنه لا يجوز للمشرك دخول الحرم، وإذا كان كذلك.. فحاضرو الشيء من كان مجاورا له وبالقرب منه، بدليل أنه يقال: فلان بحضرة دار فلان، وإنما يراد به: أنه بالقرب منه، ويقال: فلان بحضرة الأمير، وإنما يراد: بالقرب منه.

.[مسألة:تمتع وقران حاضري المسجد الحرام]

فإن تمتع من كان من حاضري المسجد الحرام، أو قرن... صح تمتعه وقرانه، ولكن لا يجب عليه دم، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح منه تمتع ولا قران، فإن أحرم بهما.. ارتفضت عمرته، فإن أحرم بالحج بعدما فعل شوطا من الطواف للعمرة.. ارتفض حجه) في قول أبي حنيفة، و(ارتفضت عمرته) في قول أبي يوسف ومحمد، (فإن أحرم بعد ما أتى بأكثر الطواف.. مضى فيهما، ولزمه دم جبران).
دليلنا: أن من لا يكره له الإفراد.. لم يكره له التمتع والقران، كالأفقي.

.[فرع: تمتع المكي من خارج مكة]

وإن خرج المكي إلى بعض الآفاق لحاجة، ثم رجع وأحرم بالعمرة منها، أو من ميقاتها في أشهر الحج، وحج من عامه.. لم يلزمه الدم.
وقال طاووس: يلزمه الدم.
دليلنا: أن من لا يلزمه الدم إذا تمتع من بلده.. لم يلزمه الدم وإن تمتع من غير بلده، كما لو لم يحج من سنته.
وإن كان مولده ومنشؤه مكة، فانتقل عنها إلى غيرها، ثم عاد إلى مكة متمتعا أو قارنا... لزمه الدم؛ لأنه خرج بالانتقال عن أن يكون من أهلها.
وإن كان من غير حاضري المسجد الحرام، فخرج من بيته يقصد مكة متمتعا ناويا للمقام بمكة بعد فراغه من الحج، فتمتع أو قرن.. لم يسقط عنه الدم؛ لأنه لا يصير مقيما إلا بالنية والفعل.
فإذا استوطنها ثم تمتع بعد ذلك، أو قرن.. فلا دم عليه؛ لأنه صار من حاضري المسجد الحرام.

.[فرع: تعدد المنزل للمتمتع]

إذا كان للرجل منزلان، أحدهما من الحرم على مسافة تقتصر فيها الصلاة، والآخر منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فتمتع بالعمرة إلى الحج.. قال الشافعي: (فأحب إلي أن يهرق دما بكل حال، فإن أبى إلا ما يلزمه.. نظر في مقامه: في أي المنزلين أكثر؟ فيكون حكمه حكم ذلك المنزل، فإن استوى مقامه فيهما.. نظر إلى ماله: في أي المنزلين أكثر؟ فيكون الحكم له فإن استويا في ذلك.. نظر إلى بيته في الإقامة بعد فراغه من الحج، فيكون الحكم له)، فإن استويا في ذلك.. قال أصحابنا: ينظر إلى الموضع الذي أنشأ منه العمرة، فيكون الحكم له.

.[فرع: نية التمتع]

وهل يشترط نية التمتع؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها ليست بشرط؛ لأن الدم إنما وجب عليه لتركه الإحرام بالحج من
ميقات بلده، وهذا المعنى موجود وإن لم ينو التمتع.
والثاني: أنها شرط في وجود الدم؛ لأنه جمع بين العبادتين في وقت إحداهما، فافتقرت إلى النية، كالجمع بين الصلاتين.
فإذا قلنا بهذا: فهل من شرط هذه النية أن تكون عند الإحرام بالعمرة، أو يكفي أن ينوي ذلك في نية الجمع قبل الفراغ من أفعال العمرة؟ فيه وجهان، بناء على القولين في نية الجمع بين الصلاتين في وقت الأولى.
وهل يشترط أن تكون العمرة والحج من شخص واحد؟ فيه وجهان:
أحدهما قال عامة أصحابنا: لا يشترط ذلك.
والثاني: قال الخضري: يشترط ذلك. والأول أصح.

.[فرع: العمرة بعد الحج أو القران من أدنى الحل لنفسه أو عن غيره]

قال الشافعي في القديم: (إذا حج الإنسان عن نفسه من الميقات في أشهر الحج فلما تحلل منه اعتمر عن نفسه من أدنى الحل، أو تمتع أو قرن عن نفسه من الميقات فلما فرغ أحرم بالعمرة عن نفسه من أدنى الحل.. فلا دم عليه في ذلك كله؛ لإحرامه بالعمرة المتأخرة عن الحج من أدنى الحل).
وكذلك لو أفرد عن غيره الحج من الميقات ثم اعتمر عنه من أدنى الحل، أو تمتع أو قرن عنه من الميقات ثم أحرم عنه بالعمرة من أدنى الحل.. لم يجب عليه غير دم التمتع أو القران؛ لأن عمل الأجير كعمل المستأجر.
فأما إذا اعتمر عن نفسه من الميقات ثم حج عن غيره من مكة، أو حج عن نفسه من الميقات ثم اعتمر عن غيره من أدنى الحل.. فعليه الدم في هاتين المسألتين، خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أن الإحرامين إذا كانا عن شخصين.. فإنه يستحق فعلهما جميعا من الميقات، فإذا ترك الميقات لأحدهما.. وجب عليه الدم لأجله، كمن مر بالميقات مريدا للنسك، فلم يحرم منه، وأحرم من دونه، ولم يعد إليه قبل التلبس بنسك.
قلت: وعلى قياس هذا: ما يفعل الأجير في وقتنا: أنه يحرم بالعمرة عن المستأجر من الميقات، فإذا تحلل منها أقام يعتمر عن نفسه من أدنى الحل، ثم يحرم
بالحج عن المستأجر من مكة.. فيجب عليه للعمرة الأولى عن نفسه من أدنى الحل دم؛ لما ذكرناه فيما قبلها، ولا يجب عليه الدم لأجل ما بعدها من العمر؛ لأن المأجور عليه أن يحرم عن نفسه من الميقات بنسك واحد لا غير.

.[فرع: فقد بعض شروط التمتع المعتبرة في وجوب الدم]

ذكر الطبري في "العدة": إذا عدمت بعض الشرائط المعتبرة في وجوب الدم في التمتع. فهل يقع عليه اسم المتمتع؟ اختلف أصحابنا فيه:
قال الشيخ أبو حامد: يقع عليه اسم المتمتع، إلا أنه لا يجب عليه الدم، لفقد الشرائط.
وقال القفال: لا يسمى متمتعا، وهذه الشرائط معتبرة في استحقاق هذا الاسم. وحكي: أن الشافعي نص على هذا.

.[مسألة:حل محظورات الإحرام لتحلل المتمتع]

إذا فرغ المتمتع من أفعال العمرة.. فله أن يتحلل ويتمتع بالطيب واللباس والنساء وغير ذلك، سواء ساق الهدي أو لم يسق، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (إن لم يكن معه الهدي.. فله أن يتحلل، وإن كان معه هدي.. لم يجز له أن يتحلل، بل يقيم حتى يحرم بالحج، ثم يتحلل منهما جميعا).
واحتجوا بما روي: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على حفصة في حجة الوداع، فقالت له: يا رسول الله، ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم، ولم تحل من عمرتك؟ فقال:
إني لبدت رأسي، وقلدت هديي.. فلا أحل حتى أنحر».
دليلنا: أنه متمتع أكمل أفعال العمرة، فكان له التحلل، كما لو لم يكن معه هدي.
وأما حديث حفصة: فلا حجة فيه؛ لأنه كان مفردا عندنا، وقارنا عندهم، ولم يكن متمتعا، بدليل ما روى جابر: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» ومحال أن يكون متمتعا، ويتأسف على العمرة.
وأما معنى قول حفصة: «ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم، ولم تحل أنت من عمرتك» فمعناه: لم يحل بعمرة، كما حل الناس من حجهم بعمرة؛ لأن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد فسخ الحج على من لم يكن معه هدي من الصحابة؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الاعتمار في أشهر الحج لا يجوز، فأمرهم بالفسخ؛ ليبين لهم الجواز.

.[فرع: فسخ الحج إلى العمرة]

ومن أحرم بالحج.. لم يجز له فسخه إلى العمرة، وبه قال عامة الفقهاء. وقال أحمد: (يجوز ذلك لمن لم يكن معه هدي)، واحتج بما روى جابر: «أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي، إلا النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطلحة، فأمر النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من لم يكن معه هدي أن يفسخ الحج، ويحرم بالعمرة».
دليلنا: ما «روى بلال بن الحارث، قال: قلت: يا رسول الله، الفسخ لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ فقال: بل لنا خاصة»، ولأنه عبادة لا يخرج منها بالفساد، فلا يخرج منها بالفسخ، كالعمرة.
وأما الحديث المذكور في الفسخ: فأومأ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في "الأم" [2/109] إلى: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحرموا إحراما موقوفا، فلما انتظر النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القضاء بين الصفا والمروة.. نزل عليه القضاء: «من ساق الهدي.. فليجعله حجا، ومن لم يسق الهدي.. فليجعله عمرة»، وروي ذلك عن طاووس.
فإن كان على هذا التأويل.. فهو جائز في وقتنا هذا.
قال الشيخ أبو حامد: والمشهور في الأخبار خلاف هذا، وأن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم هو وأصحابه بالحج، فلما دخل مكة.. فسخ الحج على من لم يكن معه هدي، وأمرهم بالإحرام بالعمرة، وإنما فعل ذلك؛ ليبين جواز الاعتمار في أشهر الحج؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يرون ذلك، ويقولون: (هو من أفجر الفجور، ويقولون: إذا عفا الأثر، وبرأ الدبر، وانسلخ صفر.. حلت العمرة لمن اعتمر) فأحب النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبين الجواز بأظهر ما يكون، ففسخ عليهم الحج، وإنما خص بالفسخ من لم يكن معه هدي؛ لأنه فرضهم الصوم، ولا ضرر عليهم في الصوم بمكة، ولو فسخها على الذين معهم هدي.. لاحتاجوا إلى ذبح هديهم بمكة، وفي ذلك ضرر؛ لأنهم يحرمون بالحج من مكة، والمتمتع يذبح هديه إذا أحرم بالحج، فكان يصير سنة الذبح بمكة، وفي ذلك ضرر؛ لأنها تتلوث بالدم، فتركهم على إحرامهم لكي يذبحوا بمنى، وتكون سنة الذبح بها، ولا تتلوث مكة بالدم.
فإذا كان على هذا التأويل.. فإن الفسخ يكون خاصا لأصحاب النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا هو الصحيح؛ لما ذكرناه من حديث بلال بن الحارث.

.[مسألة:وقت إحرام المتمتع بالحج]

إذا تحلل المتمتع من عمرته، وكان واجدا للهدي.. فالمستحب له أن يحرم بالحج يوم التروية: وهو اليوم الثامن، فيحرم بعد الزوال متوجها إلى منى.
وقال مالك: (يستحب له الإحرام عنه إهلال ذي الحجة).
دليلنا: ما روى جابر: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا توجهتم إلى منى رائحين.. فأهلوا بالحج».
وإن كان عادما للهدي.. ففرضه الصوم، ويستحب له أن يفرغ من صوم الثالث يوم التروية، ولا يجوز الصوم قبل الإحرام بالحج على ما يأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.

.[مسألة:وقت وجوب دم التمتع]

وأما وقت وجوب دم التمتع على من وجدت فيه شرائطه... فيجب - عندنا - إذا أحرم بالحج، وبه قال أبو حنيفة.
وقال عطاء: لا يجب حتى يقف بعرفة.
وقال مالك: (لا يجب حتى يرمي جمرة العقبة)، فاعتبر كمال الحج.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وهذا قد فعل ذلك؛ لأن ما جعل غاية.. فوجود أوله كاف، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
ولأن الشرائط توجد بوجود الإحرام بالحج، فتعلق الوجوب فيه.
وأما وقت نحره: فالأفضل أن لا يذبح إلا يوم النحر، فإن ذبح بعد الإحرام بالحج، وقبل يوم النحر.. جاز عندنا.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يجوز).
دليلنا: أنه دم يتعلق بالإحرام، فجاز إخراجه قبل يوم النحر، كدم الطيب واللباس.
وإن ذبح بعد الفراغ من العمرة، وقبل الإحرام بالحج.. ففيه قولان، حكاهما أبو علي في "الإفصاح"، وحكاهما المسعودي [في "الإبانة" ق \ 184] وجهين:
أحدهما: لا يجوز؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وما لم يحرم بالحج.. فلم يوجد التمتع. ولأن للهدي عملا يتعلق به عمل البدن، وهو تفرقة الهدي، فلم يجز تقديمه على وجوبه، كالصوم.
والثاني: يجوز، وهو الصحيح؛ لأنه حق مال يتعلق بأسباب، فإذا وجد شرطها أو أكثرها.. جاز تقديمه على ما بقي منها، كالزكاة بعد ملك النصاب، وقبل الحول، وككفارة اليمين بعد الحلف، وقبل الحنث.
وإن أراد أن يذبح بعد الإحرام بالعمرة، وقبل الفراغ منها.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يجزئه وجها واحدا.
وأما المسعودي [في "الإبانة" ق \ 185]، فقال: إذا قلنا: يجوز أن يذبح بعد الفراغ من العمرة وقبل الإحرام بالحج.. فهل يجوز له أن يذبح قبل الفراغ من العمرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له؛ لأنه قد وجد بعض أسباب وجوبه، وهو الشروع في العمرة، فصار كما لو ذبح بعد الفراغ من العمرة.
والثاني: لا يجزئه، وهو الصحيح؛ لأن أحد سببي الوجوب بكماله - وهو العمرة ـ لم يوجد، فصار كما لو ذبح قبل الإحرام بالعمرة.

.[مسألة:انتقال المتمتع من الهدي إلى الصوم]

وإذا كان المتمتع واجدا للهدي في موضعه.. لم يجز له الانتقال إلى الصوم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196].
فنقله إلى الصوم، بشرط عدم الهدي.
وإن كان عادما للهدي في موضعه، وفي بلده.. جاز له الانتقال إلى الصوم،
وهو: صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع؛ للآية، وهكذا إذا كان عادما له في موضع.
وإن كان واجدا له في بلده.. كان له أن ينتقل إلى الصوم؛ لأنا لو لم نجوز له الصوم.. فاته الدم والصوم؛ لأن وقت الدم يوم النحر وأيام التشريق، ووقت صوم الثلاث قبل يوم النحر، وبالتأخير يفوتان جميعا.
إذا ثبت هذا: فلا يجوز له أن يصوم الثلاث قبل الإحرام بالحج، وروي ذلك عن ابن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له صوم الثلاث بعد الإحرام بالعمرة، وقبل التحلل منها)، وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
والرواية الأخرى عنه: (يصومها بعد الفراغ منها) وهو قول عطاء.
دليلنا: أنه صوم واجب، فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه، كسائر الصوم
الواجب، ولأنه وقت لا يجوز فيه فعل المبدل، فلم يجز فيه فعل البدل، كما قبل الإحرام بالعمرة.
إذا تقرر ما ذكرناه: وأراد المتمتع أن يصوم الثلاث بعد الإحرام بالحج.. فالأفضل: أن يفرغ منها قبل يوم عرفة؛ لأن الأفضل للحاج أن يكون مفطرا يوم عرفة؛ لأن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مفطرا فيه؛ ولأن ذلك أقوى له على الدعاء.
وإن صام يوم عرفة منها.. جاز؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يصوم المتمتع إذا لم يجد الهدي ثلاثة أيام إلى يوم النحر»، ولا يجوز أن يصوم يوم النحر؛ لـ: (أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيامه).
وهل يجوز صوم الثلاث في أيام التشريق؟ فيه قولان، ذكرناهما في الصيام.

.[فرع: لا يفوت صوم الثلاث بفوات عرفة]

صوم الثلاث لا يفوت بفوات يوم عرفة.
فإن قلنا: يجوز صوم أيام التشريق.. صام فيها، ويكون مؤديا للصوم، لا قاضيا.
وإن قلنا: لا يجوز صوم أيام التشريق.. صام بعدها، ويكون قاضيا.
وقال أبو حنيفة: (إذا لم يصم الثلاث قبل يوم النحر.. سقط الصوم، ولم يقض، ولكن استقر عليه الهدي في ذمته، ويلزمه دم آخر؛ لتأخير الصوم عن وقته).
وحكى الشيخ أبو حامد: أن أبا إسحاق خرج قولا آخر: أن الصوم يسقط، ولا يقضى، ولكن يجب في ذمته دم تمتع إلى أن يقدر، وحكاه في، " المجموع " و "الشامل" عن أبي العباس.
ووجهه: أن الله تعالى أمر بالهدي مطلقا، وأمر بالصوم عند عدم الهدي مقيدا بوقت، فإذا فات وقت الصوم.. وجب أن يرجع إلى الهدي المطلق.
دليلنا - على أبي حنيفة ـ: أنه صوم واجب، فلا يسقط بفوات وقته، كصوم رمضان.
ودليلنا - على بطلان القول المخرج ـ: أن الصوم بدل عن الهدي، فإذا فات الصوم.. وجب قضاؤه بالصوم لا بالهدي، ولأنا لو ألزمناه الهدي... لأدى إلى أن يكون المبدل بدلا، وهذا لا يجوز.

.[فرع: موت المتمتع قبل التمكن من الصوم]

فإن أحرم المتمتع بالحج وهو عادم للهدي.. فإن فرضه الصوم، فلو مات قبل أن يتمكن من الصوم.. ففيه قولان:
أحدهما: يسقط عنه الصوم، ويهدى عنه من ماله؛ لأن الصوم قد فات بموته، ولا يمكن أن يصام عنه، ويمكن أن يهدى عنه.
والثاني: لا يجب عليه الهدي من ماله؛ لأنه لم يجب في حياته، فلم يجب بعد
موته، ولا يصام عنه؛ لأن النيابة في الصوم لا تجوز، ولا يجب أن يطعم عنه؛ لأن الإطعام إنما يجب عن صوم تمكن منه.

.[فرع: الصوم بدل عن الهدي وبيان وقته]

ويصوم سبعة أيام إذا رجع، والعشر كلها بدل عن الهدي.
وقال أبو حنيفة: (الثلاثة وحدها بدل عن الهدي، وأما السبع: فليست ببدل).
دليلنا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196].
فعلق وجوبها بعدم الهدي، فكان الجميع بدلا منه، كالثلاثة الأيام.
وللشافعي في الرجوع - الذي هو وقت لجواز صوم السبع - قولان:
أحدهما: نقله المزني وحرملة ـ: (أنه الرجوع إلى الأهل والوطن). وهو الصحيح.
واختلف أصحابنا: في القول الثاني:
فمنهم من قال: هو إذا فرغ من أفعال الحج، وهو قول أبي حنيفة وأحمد.
ووجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196].
والرجوع يجب أن يكون رجوعا عن المذكور، وهو الحج، ولأنه متمتع فرغ من أفعال الحج، فجاز له صوم السبع، كما لو أقام بمكة.
ومن أصحابنا من قال: القول الثاني: هو إذا أخذ في السير خارجا من مكة، وبه قال مالك، وهو المذكور في "المهذب"؛ لأن ابتداء الرجوع هو الابتداء بالسير من مكة. ووجه - ما نقل المزني وحرملة -: قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196].
ولا يجوز أن يكون المراد به الفراغ من أفعال الحج؛ لأنه لا يصح أن يقال: رجعت عن فعل كذا، ولو أراد ذلك.. لقال: وسبعة إذا فرغتم، وإنما يقال ذلك لمن رجع إلى وطنه. وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت.. لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة، فمن كان معه هدي.. فليهد، ومن لم يكن معه هدي.. فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله». فإذا قلنا بهذا، فصام السبع قبل أن يرجع إلى وطنه.. لم يجزه. وإذا قلنا: إن الرجوع هو الفراغ من أفعال الحج، أو إذا أخذ في السير، فأخره حتى رجع إلى أهله، ثم صامها.. أجزأه. وإن صامها في ابتداء السير.. أجزأه، وفي الأفضل قولان: أحدهما: أن تقديمه أفضل؛ لأن فعل العبادة في أول وقتها أفضل. والثاني: أن تأخيره إلى الوطن أفضل - وبه قال مالك - ليخرج بذلك من الخلاف.